تحولات النهضة- من الإسلام السياسي إلى الديمقراطية، تجديد مستمر

في خضم التحولات الإقليمية المتسارعة، وبالتزامن مع إعلان حزب العمال الكردستاني المسلح عن حل نفسه، عادت إلى الواجهة التساؤلات المحورية بشأن مستقبل حركة النهضة، وما يكتنف مسيرتها من تحديات وفرص.
أثار هذا النقاش مجدداً إشكاليات جوهرية حول مشروعية وجود حركة النهضة كحزب ذي مرجعية إسلامية في الساحة السياسية التونسية، وتوزعت الرؤى بين اتجاه يدعو إلى حل الحركة ذاتياً، معللاً ذلك بتجاوز الزمن لها وتزايد التحديات التي تواجهها، وبين رأي آخر يرى في استمرارها ضرورة باعتبارها مكوناً تاريخياً وسياسياً فاعلاً في تونس، ولها إسهاماتها وتطلعاتها. في المقابل، نادى فريق ثالث بتجاوز هذه الثنائية المحدودة، والانطلاق نحو معالجة أعمق وأكثر شمولية، تركز على إصلاح وتجديد رؤية الحركة وتوجهاتها.
تحولات كبرى قادتها أسئلة كبرى
منذ نشأتها قبل ما يربو على الستين عاماً، شهدت حركة النهضة، بمختلف أسمائها وتشكيلاتها، منعطفات استراتيجية هامة في سياقات حزبية ووطنية متباينة، وكانت هذه التحولات استجابة مباشرة لتساؤلات عميقة وجودية وفكرية وسياسية. ويمكن إجمال هذه التحولات في خمس مراحل رئيسية:
1- النشاط ضمن الدولة / الحزب الحاكم أو خارجهما
في بداية مسيرتهما مطلع سبعينيات القرن الماضي، انضم الأستاذان راشد الغنوشي وعبد الفتاح مورو إلى جمعية المحافظة على القرآن الكريم، حيث انخرطا في إلقاء الدروس والمحاضرات الدينية، ونشر الوعي الديني في أوساط المجتمع، قبل أن يتجها نحو تأسيس ما عرف بـ "الجماعة الإسلامية".
هذا التحول الجوهري جاء نتيجة لتطورات فكرية وتنظيمية وسياقية، استشعر من خلالها الشيخان أن العمل الدعوي بمفرده لا يكفي لمواجهة التحديات الجسام التي تفرضها الدولة الحديثة وسياساتها، والأزمات السياسية والاجتماعية التي كانت تعصف بالمجتمع التونسي آنذاك.
يمكن اعتبار هذا الانتقال بمثابة التحول الاستراتيجي الأول في مسيرة الحركة الإسلامية الناشئة، وكان بمثابة إجابة عن سؤال جوهري: كيف نحافظ على هويتنا وقيمنا دون الوقوع في شرك العزلة والانغلاق؟ وقد طبع هذا التحول هوية الحركة كحركة سياسية ذات رؤية إسلامية، وحدد مجال عملها في فضاء أوسع خارج السلطة ومؤسساتها الرسمية.
2- من الجماعة الإسلامية إلى حركة الاتجاه الإسلامي
لم يمضِ وقت طويل على تأسيس الجماعة الإسلامية حتى أدرك قادتها الحاجة الملحة إلى تطوير الفكرة التأسيسية، وتوسيع نطاقها البشري، وبناء قاعدة تنظيمية متينة.
توسعت دائرة الفكرة من مجرد العمل الدعوي الاجتماعي إلى الاهتمام بالشأن السياسي العام، وتجسدت القاعدة التنظيمية في هيكل تنظيمي متكامل تحكمه قوانين ولوائح واضحة، كما تم توسيع القاعدة الشعبية من خلال استقطاب أعداد كبيرة من الشباب والطلاب.
جاء هذا التحول النوعي في خضم التحديات الاجتماعية والسياسية والثقافية التي كان يعيشها المجتمع التونسي آنذاك، والتي بلغت ذروتها في المواجهة العنيفة بين النظام الحاكم والاتحاد العام التونسي للشغل عام 1978، ثم فيما يعرف بـ "أحداث قفصة" عام 1980، وهي مدينة تقع في الجنوب الغربي التونسي، حيث قادت مجموعة من الاتحاد القومي الديمقراطي عملية مسلحة بهدف قلب نظام الحكم، وتمكنت لفترة وجيزة من السيطرة على بعض المرافق الحيوية، وعلى رأسها ثكنة عسكرية.
تزامن ذلك مع تطور ملحوظ في تجربة الجناح الطلابي التابع للجماعة الإسلامية، سواء من حيث التوسع الكمي في القاعدة الشعبية، أو من حيث النضج السياسي والثقافي من خلال التحركات والمنشورات، وعلى رأسها مجلتا "الحدث السياسي" و"الحدث الثقافي"، وكان لهذا الجناح السبق في رفع شعار "نريد الحرية في الجامعة كما نريدها في البلاد"، في إطار معاركه الشرسة مع التيارات اليسارية التي كانت تهيمن آنذاك على النشاط الطلابي السياسي والنقابي، وعلى الفضاء الطلابي بشكل عام.
في ظل هذه الظروف الاقتصادية الصعبة، والأجواء الاجتماعية المتوترة، والأزمات السياسية المتلاحقة، مثّل تنامي المعارضة السياسية ضغطًا داخليًا على السلطة الحاكمة، مما دفعها إلى إعلان إجراءات ظاهرها الانفتاح السياسي، وباطنها مناورة سياسية تهدف إلى احتواء المعارضة وامتصاص الغضب الشعبي والتقاط الأنفاس.
وفي خطوة مفاجئة، قام بورقيبة في شهر أبريل من عام 1980 بتعيين محمد مزالي، المحسوب على تيار الهوية، في منصب الوزير الأول، وأعلن عن السماح بالتعددية الحزبية، وإصدار صحف المعارضة، وتنظيم أول انتخابات تعددية في شهر أكتوبر من العام نفسه.
في هذا السياق الحساس، أعلنت الجماعة الإسلامية في ندوة صحفية عقدت بتاريخ 6 يونيو 1981 عن قرارها التحول إلى حزب سياسي قانوني، وهو ما مثّل تحولًا استراتيجيًا ثانيًا جاء بعد نقاشات داخلية مستفيضة، ساهم فيها الجناح الطلابي بشكل كبير في حسم الموقف.
كما كان للكشف الأمني عن تنظيم الجماعة الإسلامية في 9 ديسمبر 1980 أثره في هذا الانتقال، وذلك تحسبًا لحملة اعتقالات ومحاكمات واسعة كانت متوقعة.
لم يمض وقت طويل على إعلان 6 يونيو 1981 حتى شن النظام الحاكم في 18 يوليو من العام نفسه حملة اعتقالات واسعة النطاق، شملت المئات من قيادات الحركة بتهمة الانتماء إلى تنظيم غير مرخص له، وذلك في نفس اليوم الذي أعلنت فيه السلطة الاعتراف القانوني بالحزب الشيوعي التونسي، وبحزب حركة الوحدة الشعبية، وقبلهما في 3 أبريل 1981 بحركة الديمقراطيين الاشتراكيين.
لم يقتصر زيف التحول نحو التعددية والديمقراطية على رفض الاعتراف بحركة الاتجاه الإسلامي فحسب، بل تجسد أيضًا في التزوير الفاضح لنتائج الانتخابات التشريعية التي "فاز" فيها الحزب الحاكم بجميع المقاعد (136)، والإبقاء على أحزاب المعارضة كجزء من الديكور "التعددي والديمقراطي"، بهدف امتصاص أي غضب شعبي أو انفجار للأوضاع، خاصة في ظل هشاشة وضع الحزب الحاكم نتيجة تنامي المعارضة، وتفاقم التحديات، وتعاظم المخاطر، واحتدام الصراع الداخلي حول خلافة بورقيبة.
3- من حركة الاتجاه الإسلامي إلى حركة النهضة
جاء هذا الانتقال في فترة حرجة بين عهدين، عهد بورقيبة وعهد بن علي. خاض بورقيبة آخر معاركه السياسية وأشدها مع حركة الاتجاه الإسلامي عام 1987، في ظل مناخات متوترة اتسمت بأزمة مع ليبيا ومع الاتحاد العام التونسي للشغل عام 1985، وأزمة اقتصادية ومالية حادة عام 1986، أدت إلى اعتماد خطة الإصلاحات الهيكلية.
في المقابل، نجحت المعارضة، ومن ضمنها حركة الاتجاه الإسلامي، في تنسيق مواقفها من خلال مقاطعة الانتخابات البلدية عام 1985، وفي التقارب مع الاتحاد العام التونسي للشغل.
وفي مسار موازٍ، شهدت الساحة الطلابية تصعيداً نضالياً على خلفية الأحداث التي شهدتها البلاد عام 1985، وتحول الأمر لاحقًا إلى مواجهات دامية مع قوات الأمن إثر اغتيال الطالب الإسلامي عثمان بن محمود في شهر أبريل من عام 1986.
أدركت السلطة الحاكمة أن الأوضاع بدأت تخرج عن السيطرة، فاختارت كعادتها الحل الأمني القمعي الذي طال الجميع، وكان نصيب حركة الاتجاه الإسلامي منها حملة اعتقالات واسعة شملت المئات من قياداتها، بمن فيهم رئيسها الأستاذ راشد الغنوشي الذي صدر في حقه حكم بالسجن المؤبد في شهر أغسطس من عام 1987.
زادت الإجراءات القمعية من تأجيج الأوضاع وتعاظم المخاطر، وأصبح المستقبل مجهولاً إلى أن قام زين العابدين بن علي بانقلابه "الطبي" على بورقيبة، وتولى مقاليد الحكم، وأعلن عن بداية عهد جديد من خلال بيان سياسي رحب به الجميع، مبشراً بانفتاح سياسي يسعى من خلاله إلى كسب الشرعية الشعبية والدولية التي يحتاجها بشدة.
بادر بن علي بإصدار عفو رئاسي أطلق بموجبه سراح العديد من السجناء السياسيين، ومن بينهم مناضلو حركة الاتجاه الإسلامي. وكان إطلاق سراح الأستاذ راشد الغنوشي في شهر مايو من عام 1988 مؤشرًا إيجابيًا على فتح خط التفاوض بين بن علي وحركة الاتجاه الإسلامي، وهو ما أفضى إلى اتفاق على التهدئة من جهة النهضة، والانفتاح السياسي من جهة بن علي.
بناءً على ذلك، كانت المبادلة السياسية بين الحركة وبن علي تقتضي من جهة الحركة إعلان الدعم لحكم بن علي و"الثقة" فيه، وإعلان بعض المراجعات الفكرية، ومنها تصريح الغنوشي في حوار له مع مجلة "حقائق" التونسية بأن "مجلة الأحوال الشخصية لا تتعارض مع الإسلام"، وأن إلغاء تعدد الزوجات وتقييد الطلاق لا يتنافيان مع روح الشريعة الإسلامية، بل يمكن تأويلهما كاجتهادات فقهية في سياق اجتماعي معين.
عكس هذا التصريح تحولاً فكريًا وسياسيًا مهمًا داخل حركة الاتجاه الإسلامي، وخاصة فيما يتعلق بأحد أهم رموز الحداثة في تونس (مجلة الأحوال الشخصية)، وسعت الحركة من خلاله إلى تقديم صورة معتدلة و"مدنية" للإسلام السياسي التونسي.
لم يمر هذا الإعلان دون أن يثير انقسامًا حادًا في الساحة السياسية والفكرية التونسية آنذاك، بين ترحيب من التيار العلماني الذي بقي حذرًا ومتشككًا في نوايا الغنوشي وحركته، وبين نقد من الإسلاميين الذين اعتبروا هذا الموقف تنازلاً فكريًا وسياسيًا يمس هوية "المشروع الإسلامي" دون مبرر.
أما من جهة السلطة، فكانت المبادلة تقتضي إطلاق سراح جميع سجناء الحركة وعودة مهاجريها واسترداد حقوقهم، ومنحها رخصة لإصدار جريدة "الفجر"، وأخرى لجمعية ثقافية بدلاً من تأشيرة حزب سياسي، استنادًا إلى القانون عدد 32 لسنة 1988 المؤرخ في 3 مايو 1988 المتعلق بتنظيم الأحزاب السياسية، الذي اعترف بالتعددية السياسية وحق تكوين الأحزاب، إلا أنه وضع شروطًا قاسية لذلك، منها احترام الهوية العربية الإسلامية، واحترام النظام الجمهوري ومبادئ الديمقراطية، ومنع تأسيسها على أساس ديني أو عرقي أو جهوي.
لم ينقطع الحوار الداخلي داخل حركة الاتجاه الإسلامي تفاعلاً مع المستجدات المتلاحقة وبحثًا عن صيغة تسمح لها بالتموضع في المشهد العام كحزب سياسي قانوني في ظل الانفتاح النسبي الذي أعلنه بن علي.
انتهى الحوار داخل الحركة في عام 1989 إلى تكييف وضعها بحسب ما نص عليه قانون الأحزاب من منع تأسيس أحزاب على أساس ديني، فقامت بتغيير اسمها من حركة الاتجاه الإسلامي إلى حركة النهضة، وقدمت نفسها في صورة أكثر "وطنية" و"مدنية"، وأقل ارتباطًا بالإسلام السياسي بمفهومه التقليدي.
إلا أن النظام رفض مرة أخرى منحها الترخيص القانوني، وبقي يتعامل معها باعتبارها تنظيمًا محظورًا، وشن ضدها حملة قمع واسعة النطاق في أوائل تسعينيات القرن الماضي بعد الانتخابات التشريعية لعام 1989، التي أظهرت أن النهضة تتمتع بشعبية كبيرة، حتى دون ترخيص رسمي.
وهكذا انهارت المبادلة السياسية بين الحركة والسلطة؛ بسبب إصرار الأخيرة على رفض الاعتراف القانوني بالحركة كحزب سياسي، رغم كل ما قامت به من مراجعات وما أبدته من "تفهّم" ضمن سياسة التهدئة التي انتهجتها.
فعلت السلطة كل ما في وسعها لاحتواء التيار الإسلامي وترويضه وضبطه تحت سقف رؤيتها ومصلحتها التي لا مجال فيها لقيام حزب سياسي ذي مرجعية إسلامية وتاريخ نضالي كبير وانتشار شعبي واسع. وعندما فشلت السلطة في احتواء النهضة والتعامل معها سياسيًا، اختارت التعامل معها كملف أمني خطير.
4- من حركة النهضة إلى حزب حركة النهضة
انتهت الأزمة مع بن علي في بداية تسعينيات القرن الماضي إلى ما يشبه المجزرة الأمنية والقضائية في حق عشرات الآلاف من قيادات ومناضلي الحركة، بين سجين ومطارد ومهجر وشهيد.
كانت خطة السلطة أمنية بامتياز، تهدف إلى استئصال الحركة من جذورها وتجفيف منابع قوتها. انتقلت قيادة الحركة إلى الخارج، ولم تلبث أن أعادت بناء نفسها تنظيميًا وسياسيًا، مؤكدة صفتها السياسية المدنية السلمية، والتزامها بمواصلة النضال السلمي من أجل الحرية والديمقراطية، وإطلاق سراح المساجين من خلال جبهة سياسية معارضة تعمل على بناء توافقات وطنية جامعة توفر شروط قيام مصالحة وطنية شاملة.
واجهت الحركة على امتداد عقدين من الزمن العديد من الأسئلة الكبرى، وأدارت حولها حوارات معمقة خلصت في نهايتها إلى رفض فكرة حل نفسها ذاتيًا أو الانسحاب من العمل السياسي والتحول إلى العمل الدعوي الثقافي والاجتماعي، مقابل تأكيد تمسكها بحقها الأصيل في العمل السياسي، وتثبيت صفتها السياسية والمدنية السلمية، وحرصها الدائم على التنسيق الوثيق مع قوى المعارضة لبناء تحالفات متينة، عبر القيام بمراجعات فكرية شاملة في قضايا هامة ضمن أول حوار ضمن "هيئة 18 أكتوبر للحريات" بين الإسلاميين والعلمانيين من يساريين وقوميين وليبراليين، حول قضايا الحريات والديمقراطية والحقوق، ومنها حقوق المرأة والمساواة بين الجنسين، والعلاقة بين الدولة والدين، وحرية الضمير والمعتقد، وغيرها من القضايا الحساسة، وتم نشر نتائج هذا الحوار في وثيقة تاريخية أسست لفكرة "العهد الديمقراطي".
فتحت ثورة الحرية والكرامة الباب أمام حركة النهضة وغيرها من القوى السياسية للعمل في إطار أحزاب قانونية، وانتقلت الحركة بذلك لأول مرة إلى حزب سياسي قانوني هو حزب حركة النهضة.
5- من الإسلام السياسي إلى الإسلام الديمقراطي
أدت تجربة حركة النهضة في الحكم خلال حقبة حكومتي الترويكا (2012-2014) إلى تراجع ملحوظ في شعبيتها، في سياق تراجع قوى الثورة وتقدم ما يسمى بـ "الثورة المضادة"، وفوزها في الانتخابات التشريعية والرئاسية لعام 2014.
كانت سنتان فقط من الحكم كفيلتين بطرح أسئلة جوهرية داخل حركة النهضة، تتعلق بهوية الحركة ورؤيتها السياسية وهيكلها التنظيمي وتوزيع النفوذ داخلها.
شكل الإعداد للمؤتمر العاشر للحزب السياق الأمثل والفضاء الرحب الذي دارت فيه حوارات طويلة وشاقة، بسقف مفتوح من ناحية المضمون. وقد أسفرت هذه النقاشات المستفيضة عن إقرار المؤتمر في شهر مايو من عام 2016 لنسخة جديدة من حزب حركة النهضة، أكثر تكيفًا مع التحولات الديمقراطية في تونس، وتتلخص أبرز عناوينها في: الانتقال من الإسلام السياسي إلى الإسلام الديمقراطي، والفصل التام بين العمل السياسي والعمل الدعوي، والتخصص في الشأن العام كحزب سياسي مدني وطني، منفتح على جميع الكفاءات الوطنية، وإرساء اللامركزية في الهيكلة التنظيمية، واعتماد الانتخاب الحر المباشر لتولي المسؤوليات، إضافة إلى تخصيص نسبة لا تقل عن 10% من المناصب القيادية للشباب والمرأة.
تحولات النهضة: استجابة لأسئلة الداخل والواقع
ممّا لا شك فيه أن مسيرة حركة النهضة تمثل سلسلة غنية من التحولات الكبرى والمتلاحقة على الصعد الفكرية والسياسية والتنظيمية، واجهت خلالها الحركة جملة من الأسئلة الجوهرية من خلال حوارات داخلية موسعة ومعمقة، تنتهي في كل محطة بتقييمات شاملة ودقيقة، وإجابات تأتي في صورة خيارات وسياسات جديدة، ساهمت بشكل فعال في تطوير هوية الحركة وتدقيقها، وفي تجديد رؤيتها وبناها التنظيمية والهيكلية.
تعتبر حركة النهضة بمثابة كتاب مفتوح وكائن حي في حالة تغير وتطور مستمرين، يتفاعل بشكل دائم مع استحقاقاته الداخلية ومع التحديات المتزايدة في الواقع المحيط، وذلك ضمن خط عام تسعى فيه الحركة جاهدة إلى إيجاد إجابات واضحة لأسئلة كبرى، تفتح أمامها آفاقًا جديدة تعزز موقعها الحيوي وتجعلها أكثر أهلية للمشاركة الفعالة في الشأن العام بما يعود بالنفع على الناس، ويعزز في الآن ذاته قيم الحرية والديمقراطية والحقوق والعدالة.
ما بعد الثنائية الضيقة.. نحو تجديد مشروع النهضة
إن الجدل المتجدد حول حل حركة النهضة أو شرعية وجودها يعكس في حقيقة الأمر أزمة أعمق في الفهم السياسي للدور المحتمل أن تلعبه الحركات الإسلامية المتحولة. فالموضوع أبعد ما يكون عن مجرد موقف "مع" أو "ضد" حركة النهضة، أو حصر الأمر في ثنائية "حلها" أو "الإبقاء عليها"، بل هو أوسع من ذلك بكثير ويتطلب نظرة أكثر شمولية.
إذ يجب ألا ينحصر السؤال الحقيقي في شرعية الوجود فحسب، بل في جدوى المشروع وقدرته الحقيقية على التجدد ومواكبة العصر. فالمطلوب ليس بالضرورة إنهاء حركة النهضة، بل إصلاحها من الداخل وتجديد مشروعها الشامل بحيث يكون أكثر انسجامًا مع مقتضيات الديمقراطية ومطالب المجتمع المتغيرة، وأكثر جرأة في مراجعة مواقفه وسياساته السابقة، دون التفريط في جوهرهويته أو الاستسلام للجمود والانغلاق.
تقف حركة النهضة اليوم أمام فرصة تاريخية ثمينة، ليس لإعادة إنتاج ذاتها فحسب، بل لإعادة تأسيس مشروع نهضوي شامل ومتكامل يتجاوز الأطر الأيديولوجية الضيقة، ويعيد الاعتبار لقيم الحرية والعدالة والمساواة والمواطنة الحقة، بعيدًا عن التكرار الممل والانغلاق على الذات.